فصل: ذهاب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وبين في موضع آخر‏.‏ أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله في الأعراف ‏{‏حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏ في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن‏:‏

الأول ـ وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس وقتادة ـ‏:‏ أن معنى ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع‏}‏ ـ أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى، وقد كانت لهم أسماع وأبصار‏.‏

ويدل لهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون‏}‏‏.‏

الثاني ـ وهو أظهرها عندي ـ‏:‏ أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم، والغشاوة التي جعل على أبصارهم‏.‏

ويشهد لهذا القول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً‏}‏ ونحو ذلك من الآيات‏.‏

وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وقوله ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ وقوله ‏{‏فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ وقوله ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ـ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

الثالث ـ أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة العرب في قولهم‏:‏ لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـذَا الْقُرْءَانِ‏}‏ وقوله ‏{‏وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ‏}‏‏.‏

الرابع‏:‏ أن ‏"‏ما‏"‏ مصدرية ظرفية، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا، أي يضاعف لهم العذاب دائمًا‏.‏

الخامس‏:‏ أن ‏"‏ما‏"‏ مصدرية في محل نصب بنزع الخافض، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم‏.‏ وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر‏:‏ بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقًا عند أمن اللبس‏.‏

السادس‏:‏ أن قوله ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون‏}‏ من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلًا بقوله ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ وتكون جملة ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ‏}‏ اعتراضية‏.‏ وتقرير المعنى على هذا القول‏:‏ وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله‏.‏ وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون وليًا لأحد‏.‏

ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في الأعراف ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏، ونحوها من الآيات‏.‏

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك‏:‏ أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال، وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع، والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ‏}‏‏.‏ ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير، وبين أنهما لا يستويان، ولا يستوي الأعمى والبصير، ولا يستوي الأصم والسميع‏.‏ وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة‏:‏

قوله ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ‏}‏‏.‏ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الملأ من قوم نوح قالوا له‏:‏ ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل‏.‏ وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله ‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ‏}‏‏.‏

وبين في هذه السورة الكريمة‏:‏ أن نوحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ‏}‏‏.‏ وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضًا بقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ‏}

قوله تعالى ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ‏}‏‏.‏ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح‏:‏ أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏قلَ يَا قَوْمِ‏}‏ أي أخبروني ‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏}‏ أي على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى، فخفي ذلك كله عليكم، ولم تعتقدوا أنه حق، أيمكنني أن ألزمكم به، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها، ورحمني بإيتائها، والحال أنكم كارهون لذلك‏؟‏ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحًا جليًا لا لبس فيه، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه‏.‏

وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضًا في هذه السورة الكريمة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

{‏وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ‏}‏‏.‏ ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالًا في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجانًا من غير أخذ أجرة في مقابله‏.‏

وبين في آيات كثيرة‏:‏ أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كقوله في سبأ عن نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

وقوله فيه أيضًا في آخر سورة ص‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏}‏‏.‏

وقوله في الطور والقلم ‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ‏}‏‏.‏

وقوله في الفرقان ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً‏}‏‏.‏

وقوله في الأنعام‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وقوله عن هود في سورة هود‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

وقوله في الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في يس ‏{‏وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ في كتابنا ‏"‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏"‏ في سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى ‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة‏:‏ أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانًا من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام‏.‏

ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه، فمن ذلك ما رواه ابن ماجه والبيهقي والروياني في مسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال‏:‏ علمت رجلًا القرآن، فأهدى لي قوسًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إن أخذتها أخذت قوسًا من نار‏"‏ فرددتها‏.‏

قال البيهقي وابن عبد البر في هذا الحديث‏:‏ هو منقطع، أي بين عطية الكلاعي وأبي بن كعب، وكذلك قال المزي‏.‏

وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سَلْم وهو مجهول‏.‏

وقال فيه ابن حجر في التقريب‏.‏ شامي مجهول‏.‏

وقال الشوكاني في نيل الأوطار‏:‏ وله طرق عن أبي‏.‏ قال ابن القطان‏:‏ لا يثبت منها شيء قال الحافظ وفيما قاله نظر‏.‏

وذكر المزي في الأطراف له طرقًا منها‏:‏ أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال‏.‏ أقرأني أبي بن كعب القرآن فأهديت له قوسًا فغدا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تقلدها من جهنم‏"‏ الحديث‏.‏ وقال الشوكاني أيضًا‏:‏ وفي الباب عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبي‏.‏ وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضًا‏.‏

ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال‏.‏ علمت ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلى رجل منهم قوسًا فقلت ليست بمال أرمي بها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت‏.‏ يا رسول الله، أهدى إلي رجل قوسًا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال أرمى عليها في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها‏"‏ وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي قال الشوكاني‏:‏ وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر‏.‏ وقال أبو زرعة الرازي‏.‏ لا يحتج بحديثه اهـ‏.‏ وقال فيه ابن حجر في التقريب‏.‏ المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام أو هاشم الموصلي صدوق له أوهام‏.‏ وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور‏.‏ حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا‏:‏ ثنا بقية حدثني بشر بن عبد الله بن بشار قال عمرو‏:‏ وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت‏:‏ ما ترى فيها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها‏"‏ اهـ منه بلفظه‏.‏ وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة، ووثقه آخرون إذا روي عن الثقات، وهو من رجال مسلم‏.‏ وأخرج له البخاري تعليقًا‏.‏

وقال فيه ابن حجر في التقريب‏:‏ صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن واسألوا الله به، فإن من بعدكم قومًا يقرؤون القرآن يسألون به الناس‏"‏ قال الترمذي في هذا الحديث‏:‏ ليس إسناده بذلك‏.‏

ومنها ما رواه أبو داود في سننه‏:‏ حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد عن حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه‏"‏ حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو وابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن وفاء بن شريح الصدفي، عن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نفتري فقال‏:‏ ‏"‏الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود، اقرؤوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله‏"‏ اهـ‏.‏

ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن شبل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به‏"‏‏.‏ قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في هذا الحديث‏:‏ قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات‏.‏

ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أُبي رضي الله عنه قال‏:‏ كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فيؤتي بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وإن كان يتحفك به فلا تأكله‏"‏ ا هـ بواسطة نقل ابن قدامة في المغني والشوكاني في نيل الأوطار‏.‏

فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه‏.‏

وممن قال بهذا‏:‏ الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وأبو حنيفة والضحاك بن قيس وعطاء‏.‏

وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر‏.‏

وقال عبد الله بن شقيق‏:‏ هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت‏.‏

وممن كره أجرة التعليم مع الشرط‏:‏ الحسن وابن سيرين، وطاوس، والشعبي، والنخعي‏.‏ قاله في المغني‏.‏ وقال‏:‏ إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ العلم ما أعطيه من غير شرط‏.‏

وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن

وهو مذهب مالك، والشافعي‏.‏

وممن رخص في أجور المعلمين‏:‏ أبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر‏.‏

ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال‏:‏ التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس، التعليم أحب إلي‏.‏

وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم‏.‏ قاله ابن قدامة في المغني‏.‏

واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه‏:‏ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت‏:‏ يا رسول الله، إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلًا، فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏هل عندك من شيء تصدقها إياه‏؟‏‏"‏ فقال‏.‏ ما عندي إلا إزاري‏.‏ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك‏"‏، فالتمس شيئًا فقال‏:‏ ما أجد شيئًا، فقال‏:‏ ‏"‏التمس ولا خاتمًا من حديد‏"‏ فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هل معك من القرآن شيء‏؟‏‏"‏ قال نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏"‏ وفي رواية ‏"‏قد ملكتكها بما معك من القرآن‏"‏ فقالوا‏:‏ هذا الرجل أباح له النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضًا عن صداقها‏.‏ وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز‏.‏ وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكرامًا له لحفظه ذلك المقدار من القرآن، ولم يجعل التعليم صداقًا لها ـ مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن‏"‏ وفي رواية لأبي داود ‏"‏علمها عشرين آية وهي امرأتك‏"‏‏.‏

واحتجوا أيضًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله‏"‏ قالوا‏:‏ الحديث وإن كان واردًا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب‏.‏ واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ‏:‏ الذي يظهر لي والله تعالى أعلم، أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضًا على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام للأدلة الماضية‏.‏ وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين‏.‏ لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة‏.‏

والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن والعقائد والحلال والحرام‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

{‏حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‏}‏‏.‏ ذكر الله جل وعلا في هذه الكريمة أنه أمر نبيه نوحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين‏.‏ وبين في سورة ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ أنه أمره أن يسلكهم أي يدخلهم فيها‏.‏

فدل ذلك على أن فيها بيوتًا يدخل فيها الراكبون‏.‏ وذلك في قوله ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‏}‏ ومعنى ‏"‏اسْلُك‏"‏ أدخل فيها من كل زوجين اثنين‏.‏ تقول العرب‏:‏ سلكت الشيء في الشيء‏:‏ أدخلته فيه‏.‏ وفيه لغة أخرى وهي‏:‏ أسلكته فيه، رباعيًا بوزن أفعل، والثلاثية لغة القرآن‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏كَذَلِكَ نسلكهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ وقوله ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ‏}‏‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ وكنت لزاز خصمك لم أعرد وقد سلكوك في يوم عصيب‏.‏